يقيم السوريون في عدة مدن وبلدات، فعاليات شعبية وإعلامية وثقافية بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة رائد الفضاء اللواء محمد الفارس، رفعوا خلالها صوراً له ومجسمات رمزية للمكوك الفضائي الذي حمله نحو المجد العلمي والتاريخي.
وبات اسم اللواء محمد الفارس جزءاً من سردية سوريا الحديثة التي بدأت بعد اسقاط النظام البائد، فحين ترفع صورة رجل كان رمزاً علمياً ووطنياً فهذا يعني أن الذاكرة السورية تحارب النسيان وأن البلاد ما زالت تحفل بأبطالها الأوفياء وتعيد لهم الاعتبار المعنوي والأخلاقي ولو بعد حين.
وي هذه الذكرى تذكّر السوريون صوت الفارس وحديثه ونبرته الصادقة حين تحدّث عن آلام شعبه وعن حلمه بالعودة إلى وطنه تحت راية دولة تحفظ كرامة الإنسان وتحترم العلم والتميّز فتألقت سيرته مجدداً بين الأحاديث وتناقلتها وسائل الإعلام ليُعاد إحياء قصة إنسان اختار صف الوطن لا صف النظام الذي خان الوطن.
انشقاقه عن نظام الأسد المخلوع
أعلن اللواء محمد الفارس انشقاقه عن نظام الأسد المخلوع مع بدايات الثورة السورية فكان من أوائل الشخصيات العسكرية والعلمية التي قالت لا لقمع النظام ولا لفساد منظومته الأمنية وكان ذلك الإعلان بمثابة زلزال معنوي لما يمتلكه الفارس من رمزية وطنية وعلمية وعسكرية لا يملكها غيره فاهتزّ النظام المخلوع داخلياً وارتبك أمام ما أحدثه الفارس من أثر كبير في أوساط الشعب.
بعد انشقاقه بدأ محمد الفارس نشاطاً وطنياً من نوع آخر فصار حاضراً في كل فعالية شعبية ومؤتمراً ثورياً ومعرضاً إعلامياً وكان صوته من الأصوات التي تعبّر عن ضمير السوريين جميعاً، فقد تماهى مع هموم الشعب بكل صدق وكان صريحاً في وصفه لبنية النظام الاستبدادية الطائفية ووقف داعماً لفكرة التغيير الجذري للواقع السوري نحو دولة مدنية وطنية.
واضطر محمد الفارس لمغادرة سوريا نتيجة ملاحقات النظام المخلوع وتهديدات أجهزته الأمنية التي لم تحتمل وجود شخصية ذات مكانة وطنية مستقلة، فانتقل إلى تركيا وهناك بدأ فصل جديد من حياته لا يخلو من صعوبات الغربة ومرارة البعد عن الوطن الذي أحبّه وظلّ يحلم بالعودة إليه تحت حكم جديد يحترم الإنسان ويكرّم الرموز العلمية.
ورغم غربته، بقي محمد الفارس محبوباً في الأوساط الثورية السورية، وقد أجمعت فئات واسعة من الشعب في الداخل والخارج على تقدير مسيرته واعتباره أيقونة وطنية ومثالاً للموقف الشريف فقلّما تجد شخصاً في الثورة السورية يحظى بالإجماع كما كان حال الفارس فقد وحّد حوله أطيافاً سياسية وعسكرية ومدنية في وقت كان التشرذم يخيّم على المشهد.
وفاة مُشّرِفة
غاب رائد الفضاء محمد الفارس عن الدنيا في تركيا، بعد رحلة طويلة من النضال العلمي والوطني، وكانت وفاته نتيجة تدهور حالته الصحية بعد إصابته بجلطة دماغية، وقد كانت وصيته أن يُدفن جثمانه في سوريا، الوطن الذي يُحب.
وخرج عشرات آلاف السوريين عمد تشييع جثمانخ في موكب جنائزي مهيب، يتقدمه علم الثورة وصوره وهو يرتدي بزّة رائد الفضاء التي دخل بها التاريخ السوري والعربي، وامتلأت مواقع التواصل بمقاطع التشييع وعبارات الوداع وكان الحديث الطاغي هو عن الخسارة الوطنية بفقدان رجل من طراز نادر ومتى سيكون موعد إعادة الاعتبار الكامل له من خلال دفنه في وطنه كما تمنى.
جدارته وتفوقه
اختارت وكالة الفضاء السوفيتية اللواء محمد الفارس من بين عشرات الضباط السوريين الذين خضعوا لاختبارات معقدة وصارمة للسفر في مهمة فضائية علمية على متن المكوك الفضائي السوفيتي الشهير “سيوز”، فكان هو الأجدر والأكفأ بحسب ما أظهرته النتائج العلمية والبدنية والنفسية التي خضع لها وبتفوقه أصبح أول رائد فضاء سوري وعربي يدخل الفضاء في مهمة علمية وعسكرية.
انطلقت رحلة الفارس على متن المكوك الفضائي “سيوز TM-3” إلى محطة “مير” الفضائية عام 1987 واستمرت لسبعة أيام نفّذ خلالها تجارب علمية متعددة بمجالات الفيزياء والبيولوجيا والطب، وقد تكللت الرحلة بالنجاح الكامل وسُجّلت التجارب التي أجراها في سجلات الأبحاث الفضائية الدولية لتكون بذلك مساهمة سورية خالصة في سجل التقدم العلمي العالمي.
واكتسبت الرحلة أهمية كبرى ليس فقط من الناحية التقنية، بل من الناحية السياسية والمعنوية، فقد رفع محمد الفارس اسم بلاده عالياً وأظهر أن سوريا قادرة على المنافسة العلمية رغم محدودية الإمكانات.
وكان وجود الفارس على المحطة الفضائية برهاناً على أنّ العقل السوري لا يقل شأناً عن أي عقل علمي في العالم وقد تحدّث الفارس لاحقاً بفخر عن تلك اللحظة التي وقف فيها على بعد مئات الكيلومترات من الأرض ينظر إلى كوكبه الأم.
وبعيداً عن فخرية الرحلة، لعب محمد الفارس دوراً أكاديمياً وعلمياً بالكامل، وهو ما تؤكده الوثائق التي نشرها لاحقاً، وتثبت قيامه بتجارب متقدمة في مجالات تخص الحياة خارج الأرض، وتأثير انعدام الجاذبية على أعضاء الإنسان، وتوصيل السوائل وقد استفادت مراكز الأبحاث السوفيتية من نتائجه ما جعله محل تقدير عالٍ داخل المؤسسات العلمية هناك.
وصرّح محمد الفارس -رحمه الله- في أكثر من مقابلة بأنه شعر بالفخر لتمثيله بلاده في تلك المهمة، لكنه شعر لاحقاً بالخيانة من النظام البائد الذي حوّل منجزه العلمي إلى مادة دعائية فارغة، ثم قام بتهميشه وإقصائه عن أي دور حقيقي في تطوير المؤسسات العلمية السورية، وكان دائم التذكير بأن سوريا كانت تستحق أن تصبح قوة علمية لولا الفساد السياسي الذي كبّلها.
وبقي محمد الفارس يعتز بتلك الرحلة ويراها ذروة مسيرته العلمية، لكنه كان يؤكد دائماً أن الأهم من الصعود إلى الفضاء هو الارتقاء بالوطـن نحو الأعلى، وهو ما دفعه لاحقاً للانشقاق والوقوف مع الشعب في مواجهة الاستبداد، فقد كان يعتبر أن من يكرّم العلم لا يمكن أن يكون قاتلاً لشعبه ولا عدواً للكرامة الوطنية.
إقصاء الأسد المخلوع للفارس
أظهر النظام البائد حقداً دفيناً تجاه محمد الفارس منذ لحظة انشقاقه، بل وقبلها أيضاً، حيث كانت التعاملات الرسمية معه تتسم بالتهميش والإقصاء كونه لا ينتمي إلى الطائفة الحاكمة أو مقرباً من عائلة الأسد المخلوع، ولم يكن من أصحاب الولاء المطلق للنظام بل كان وطنياً صادقاً لذلك جرى التضييق عليه حتى قبل الثورة وتم تجميد أي مبادرة علمية كان يمكن له أن يشارك فيها.
وأكد الفارس في عدة مقابلات أجريت معه، أنه طيلة سنوات بعد عودته من الاتحاد السوفيتي لم يُمنح أي موقع علمي أو إداري يساعده في تطوير قطاع الفضاء أو التعليم العلمي، بل تم تجاهله بشكلٍ متعمد لصالح شخصيات أقل كفاءة، إلا أنّها مقربة من النظام البائد ودوائره الأمنية، وكان يرى أن ذلك بمثابة اغتيال معنوي لكل طموحات الشباب السوري الراغب في التميز.
وحَرَم النظام البائد رائد الفضاء السوري من أي امتيازات كان يجب أن يحظى بها أي رائد فضاء في العالم، فلم تُصرف له مخصصات علمية أو مالية مناسبة، ولم يُدعَ إلى منتديات علمية عربية أو دولية، وكان حضوره مقتصراً على مناسبات شكلية يراد منها فقط استخدام اسمه كواجهة دعائية للنظام دون أي تمكين حقيقي أو مشاركة فاعلة.
وقد وصلت درجة حقد النظام البائد إلى منع رائد الفضاء الوطني حتى من زيارة بعض المعارض العلمية، وإغلاق الأبواب أمامه حين بادر بطرح مشاريع لتطوير التعليم التقني والبحث العلمي في سوريا.
وقد تحدث الفارس عن هذه الجزئية، مشيراً إلى مخاوف النطام البائد من عقله لا من لسانه، لأنه كان يدرك أن الفارس يعبّر عن سوريا الحقيقية لا عن صورة سوريا الزائفة التي كان يسوّقها الإعلام الرسمي.
نشأته وحياته العسكرية
ولد محمد الفارس في مدينة حلب عام 1951، ونشأ في بيئة شعبية متوسطة، إلا أنّ أسرته أولت اهتماماً كبيراً بالعلم والمعرفة، فبرع منذ صغره في المواد العلمية، وبرز كطالب متميّز في الفيزياء والرياضيات، وكان يحلم منذ مراهقته بأن يصنع شيئاً لبلاده يتجاوز حدود الواقع المعاش وينطلق نحو آفاق الابتكار.
والتحق الفارس بالأكاديمية العسكرية وتخصص في الطيران الحربي، ثم تدرّج في الرتب العسكرية حتى صار طياراً مقاتلاً في سلاح الجو، وعُرِفَ -رحمه الله- بانضباطه وشجاعته داخل الكلية وخارجها.
وأظهر الفارس تفوقاً علمياً كبيراً خلال تدريباته في موسكو، وتمكّن من إثبات جدارته في مختلف المجالات العلمية والنفسية والبدنية، ما أهّله ليكون الخيار الأول للوكالة السوفيتية، وقد تم اعتباره نموذجاً مثالياً لضابط عربي علمي يستطيع أن يكون شريكاً حقيقياً في مشروع علمي دولي.
وعُرف الفارس وسط زملائه بحسن خلقه، وبثقافته الواسعة، فكان قارئاً نهماً للكتب العلمية ومتابعاً دائماً لكل جديد في علوم الطيران والفضاء، وهذا ما أكسبه احترام المدرّبين السوفييت الذين اعتبروا أنه أحد أنجح المتدربين الأجانب في برامجهم تلك الفترة، وقد خلّف لديهم انطباعاً إيجابياً ساعد لاحقاً في تسهيل مهمة تدريبه ودمجه في طاقم الرحلة الفضائية.
إرث محمد الفارس
ترك محمد الفارس إرثاً وطنياً وعلمياً كبيراً، فهو لم يكن مجرد طيار أو رائد فضاء، وإنما شخصية متعددة الأبعاد جمعت بين العلم والنزاهة والوطنية، وقد مثّل في سيرته فكرة أن التفوّق لا يجب أن يكون حكراً على المنظومة الحاكمة، بل من حق كل سوري أن يحلم ويعمل ويصل.
وفي ذاكرة السوريين، صار الفارس رمزاً للعلم في مواجهة الجهل ،وللوطنية في وجه الاستبداد، وللنزاهة في مقابل الفساد، وقد تكرّس هذا الإرث بعد انشقاقه حين وقف مع الشعب ليكمّل سيرة حياته بشكل أكثر شرفاً وكرامة مؤكداً أن العلم لا ينفصل عن الأخلاق وأن الوطن لا يُبنى إلا بالرجال الصادقين.
وأصبح الإرث الذي تركه محمد الفارس مادة تعليمية للجيل الجديد ومصدر إلهام لمن يريد أن يخدم سوريا الجديدة، كما يُعتبر مثالاً واقعياً وانعكاساً حقيقياً لصورة المواطن السوري حين يمتلك فرصة عادلة بعيداً عن المحسوبيات والتنفيعات والوساطات والتهميش.
سيرة عَطِرة
تجسّد سيرة محمد الفارس مأساة الشخصيات العلمية في ظل حكم النظام البائد الذي همّش العقول واحتضن الولاءات الضيقة، فقُتلت المشاريع العلمية في مهدها، وغُيّبت الكفاءات لصالح عناصر غير مؤهلة في معظم القطاعات، حتى أصبح معيار التقدم والترفُع والتطوّر في المؤسسات هو الانتماء لا الكفاءة.
وساهم فساد التعليم العالي في حقبة حكم عائلة الأسد المخلوع في تحطيم آمال آلاف الشباب السوريين الذين كانوا يحلمون بفرصة منصفة لإثبات قدراتهم لكنهم اصطدموا بجدران البيروقراطية والمحسوبيات.
وكان من المفترض أن تكون المؤسسة العسكرية راعية للتفوق والانضباط، إلا أنها تحوّلت بفعل سياسات النظام البائد إلى مرتع للتنفيعات والفوضى، قبل أن يسلّطها الأسد المخلوع على السوريين لقتل السوريين وتدمير حواضرهم ونهب ممتلكاتهم سعياً في قمع ثورتهم، والتي انتصرت رغم أنفه، وانتصرت فيها آمال وطموحات محمد الفارس -رحمه الله-.