الثلاثاء 6 محرم 1447 هـ – 1 تموز 2025
دمشق
Weather
°29.2

من زمن العقوبات إلى زمن الاستحقاق: كيف كبّل نظام الأسد البلاد؟

تمثال حافظ الأسد وهو مدمر قرب مدينة النبك في ريف دمشق

لم تكن العقوبات السياسية والاقتصادية المفروضة على سوريا طارئة أو لحظية، بل امتدت عبر أكثر من أربعة عقود، بدأت منذ اللحظة التي قرر فيها نظام الأسد أن يبني سلطته على القمع، ويصوغ تحالفاته على قاعدة التحدي والصدام مع محيطه والعالم.

فمنذ استلام حافظ الأسد الحكم عام 1970 عبر انقلاب عسكري، بدأت سوريا تنزلق تدريجياً نحو العزلة الدولية، وتراكمت ضدها العقوبات شيئاً فشيئاً، لتتحول في عهد ابنه بشار إلى واحدة من أكثر الدول الخاضعة لإجراءات تقييدية في العالم.

ورغم تغير الإدارات الدولية واختلاف السياقات الإقليمية، بقيت ثوابت النظام البائد واحدة: إنكار التغيير، وتغليب الأمني على السياسي، واستنزاف البلاد باسم “الصمود”.

وعانى السوريون تضخماً وفقراً وغياباً للاستثمار وفرص العمل، كان النظام يحمّل “المؤامرة الخارجية” مسؤولية كل الانهيارات، متجاهلاً حقيقة أن العقوبات لم تكن سوى ردّ على جرائم موثقة وسلوك سياسي كارثي.

 

البدايات: حافظ الأسد وعزلة مبكرة

 

في عام 1979، كانت سوريا واحدة من أوائل الدول التي وُضعت على “قائمة الدول الراعية للإرهاب” من الولايات المتحدة، بعد أن ثبت تورطها في دعم جماعات مثل حزب الله اللبناني، إضافة إلى علاقتها الوثيقة بإيران، تبع ذلك عقوبات أميركية اقتصرت في البداية على المساعدات العسكرية والتكنولوجية، لكنها شكّلت نواة سياسة العزل التي بدأت تتسع لاحقاً.

تلك العقوبات لم تكن مؤثرة بشكل كبير على الاقتصاد السوري في حينها، لكنها رسّخت صورة سوريا كدولة خارجة عن المنظومة الدولية، وقيّدت فرصها في الاستفادة من المعونات أو تطوير الشراكات التجارية.

 

تصاعد الضغوط بعد اغتيال الحريري

 

مع بداية الألفية الثانية، وتحديداً بعد تورط النظام البائد في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005 بحسب ما خلُصت إليه لجنة التحقيق الدولية، دخلت سوريا مرحلة جديدة من العقوبات، إذ أقرّ الكونغرس الأميركي “قانون محاسبة سوريا” الذي وسّع نطاق الحظر ليشمل حظر الطيران السوري إلى أميركا، ومنع تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج، وتجميد أصول لشخصيات مقربة من النظام المخلوع.

العقوبات الأميركية حينها كانت سياسية بامتياز، أرادت الضغط على الأسد الابن الذي كان قد ورث الحكم عام 2000 في انتقالٍ نادر للسلطة داخل “جمهورية وراثية”، لكن دمشق اختارت التصعيد، فخرجت من لبنان بالقوة، وعمّقت تحالفها مع إيران، ورفعت سقف خطابها ضد الغرب والعرب معاً.

 

2011: الثورة والانهيار الكامل للعلاقات

 

عندما اندلعت الثورة السورية في آذار 2011، اختار الأسد الهارب الرد بالرصاص والدبابات، بدلاً من الإصغاء لصوت الشارع. وابتداءً من نيسان من نفس العام، بدأت أولى دفعات العقوبات الغربية تتوالى بوتيرة متسارعة.

وشملت تلك العقوبات الأوروبية تجميد أصول وحظر سفر لعشرات المسؤولين السوريين، وفي مقدمتهم الأسد نفسه، إضافة إلى حظر تصدير النفط السوري إلى أوروبا، وهو ما شكّل ضربة موجعة للخزينة العامة.

بالموازاة، فرضت الولايات المتحدة حزمة من العقوبات شملت المصرف المركزي، ووزارة النفط، وشبكات تجارية ممولة من رجال أعمال موالين للنظام البائد.

ولم تكن هذه العقوبات رمزية، بل شاملة ومركّزة، استهدفت عصب الاقتصاد، وحوّلت التعاملات المصرفية إلى مهمة مستحيلة.

 

العقوبات العربية: سقوط الغطاء الإقليمي

 

لأول مرة في تاريخ الجامعة العربية، اتخذت الدول العربية قراراً جماعياً بفرض عقوبات اقتصادية على دولة عضو هي سوريا.

ففي تشرين الثاني 2011، جُمّدت المعاملات المالية مع النظام البائد، وأوقفت الرحلات الجوية، وعُلّقت عضوية سوريا في الجامعة، بعد رفض النظام الالتزام بمبادرة عربية لوقف العنف.

فقد المخلوع بذلك آخر مظلة إقليمية كان يعوّل عليها، وبدلًا من الانفتاح على أي حل سياسي، انكفأ نحو مزيد من العنف، واستدعى حلفاءه الإقليميين والدوليين إيران، ثم روسيا لفرض الأمر الواقع بالقوة.

 

قانون قيصر: الضربة الأكبر

 

في حزيران 2020، دخل قانون “قيصر” الأميركي حيّز التنفيذ، مستنداً إلى آلاف الصور المسرّبة من معتقلات النظام البائد، والتي وثّقت تعذيب وقتل الآلاف من السوريين.

واستهدف القانون كل من يدعم النظام مالياً أو عسكرياً، سوريّاً كان أو أجنبياً، وفرض قيوداً صارمة على أي محاولة لإعادة الإعمار دون حل سياسي.

أدى القانون إلى شلل شبه تام في بيئة الاستثمار السورية، وامتنع رجال الأعمال والشركات حتى عن التفكير بالاقتراب من السوق السورية.

وارتفعت الأسعار، انهارت الليرة، وامتلأت البلاد بالشبكات غير الشرعية التي ازدهرت تحت حماية أمراء الحرب.

 

شعب دفع الثمن دون أن يملك القرار

 

على مدار العقود، كان الخطاب الرسمي للنظام يختزل العقوبات كلها في عبارة “حصار خارجي” ويستخدمها لتبرير الفشل الاقتصادي، والتضييق على الحريات، وتسويق خطاب المؤامرة، لكن الواقع أن الشعب السوري، لا النظام، هو من دفع الثمن.

بينما بقيت حسابات الأسد الهارب وأعوانه آمنة في الخارج، كان ملايين السوريين يرزحون تحت وطأة الغلاء، والعزلة، وفقدان الأمل.

ولم تكن العقوبات عقاباً جماعياً، بل كانت نتيجة مباشرة لاختيارات النظام البائد الذي لم يتوقف عن ارتكاب الانتهاكات، رغم كل التحذيرات الدولية.

 

التحول الكبير: من دولة معاقبة إلى دولة مستحقة

 

في مفارقة تختصر حجم التحول الذي تعيشه سوريا، جاء قرار رفع العقوبات الدولية عن البلاد، بعد أشهر من سقوط نظام الأسد البائد، بمثابة اعتراف عالمي بأن السوريين يستحقون فرصة لبناء بلادهم.

ولم تنتظر الحكومة الجديدة بقيادة السيد الرئيس أحمد الشرع سنوات لبناء الثقة، بل نجحت، في فترة قصيرة، بإعادة سوريا إلى الطاولة الدولية من موقع الشراكة، عبر لغة شفافة، وخطاب تصالحي، وسياسة خارجية متزنة.

وبينما قضى نظام الأسد المخلوع عقوداً في العزلة وهو يجرّ البلاد نحو الهاوية تحت شعار “الصمود”، أعادت الحكومة الجديدة فتح قنوات الاتصال مع العالم من بوابة المصلحة الوطنية.

لقاء الرئيس الشرع ونظيره الأميركي ترامب في الرياض أعاد البلاد إلى خريطة العالم السياسي في محاولة لعقد علاقات ثنائية بين البلدين، وتزامن اللقاء مع تحركات دبلوماسية تقودها السعودية وتركيا وفرنسا، ومبعوثون أمميون وأوروبيون يرحبون بعودة سوريا إلى محيطها السياسي والاقتصادي، كل ذلك يضع البلاد أمام فرصة بالغة الأهمية لإعادة البناء على أسس سليمة.

ورغم أن آثار العقوبات لن تُمحى بين ليلة وضحاها، إلا أن الشعب السوري، ولأول مرة منذ نصف قرن، ليس ضحية قرار سياسي أرعن، بل شريك في رسم ملامح غدٍ مختلف.

ولعلّ أهم ما أنجزته الحكومة ليس رفع العقوبات، بل استعادة الثقة بأن سوريا قادرة على النهوض حين يحكمها من يؤمن بها، لا من يتاجر بها.