كتب وزير الإعلام حمزة المصطفى، مقالاً حول مواجهة خطاب الكراهية والجرائم الإلكترونية في المراحل الانتقالية، وعن الطرق والتطبيقات القانونية في المراحل الانتقالية.
وجاء في المقال الذي نشرته صحيفة الثورة السورية في افتتاحية الثاني عشر “كثر النقاش في الفضاء الافتراضي مؤخراً حول ضرورة تفعيل قانون الجرائم الإلكترونية كوسيلة ردع لتنامي المحتوى التحريضي، ولا سيما ذلك المحتوى الذي يفسر فيه مفهوم حرية التعبير والصحافة تفسيراً انتقائياً أو مجتزأ بما يشجع بعض السوريين، وخاصة المقيمين خارج البلاد، على الاستثمار في خطاب طائفي أو شعبوي للتعبير عن مواقفهم المؤيدة أو المعارضة للحكومة، بما لا يخدم إنجاح المسار الانتقالي ولا يعزز السلم الأهلي.
وعزا المصطفى نمو هذه الظاهرة إلى أسباب متعددة، تتراوح بين الفهم المغلوط لطبيعة الأوضاع على الأرض، والفعل المتعمد لتحقيق حضور إعلامي أو مكاسب سياسية وشخصية، دون مراعاة لحساسية المرحلة أو لتداعيات الخطاب التحريضي على النسيج المجتمعي.
وأضاف، لمواجهة هذا التنامي المضر في الخطاب الإعلامي، يوصي البعض باتخاذ خطوات عملية رادعة، أبرزها تفعيل قانون الجرائم الإلكترونية الصادر عام 2022، وخاصة أن الإعلان الدستوري أقرّ استمرار سريان القوانين النافذة ما لم يتم تعديلها، ورغم وجاهة هذا الطرح من حيث المبدأ، إلا أن عوائق عدة تقف أمام تطبيقه بشكل عادل وفعال.
أولى هذه العوائق ذات بعد أخلاقي، إذ إن القانون الحالي يستخدم عبارات فضفاضة مثل “إضعاف الشعور القومي” و”وهن عزيمة الأمة”، وهي توصيفات تركت أثراً سلبياً عميقاً في الذاكرة الجمعية للسوريين نتيجة توظيفها سابقاً لتقييد حرية التعبير.
أما العائق الثاني، فهو إجرائي بحت يرتبط بطبيعة تحريك الدعاوى، إذ يشترط غالباً تقديم شكاوى من أفراد أو جهات، ما قد يفتح الباب أمام الانتقائية والانتقامية وعدم الاتساق في المعالجة.
في ظل هذا الواقع، ورغم الحاجة الملحة لتدخل الدولة لضبط المشهد الإعلامي، لم يحظَ تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية الحالي بقبول واسع في أوساط الصحفيين، كما لم تشهد المؤسسات العدلية والقضائية سوى عدد محدود من القضايا، انتهى معظمها بالمصالحة الشخصية قبل الوصول إلى مرحلة التقاضي، حسبما ذكر وزير الإعلام.
ومن هنا، برزت في وزارة الإعلام أسئلة مشروعة حول البدائل العملية القادرة على الموازنة بين الحرية، باعتبارها مكسباً أساسياً للسوريين يجب صونه، والمسؤولية المهنية المطلوبة لإنجاح المسار الانتقالي، وتخفيف حدة الاستقطاب، ضمن ما يعرف بنهج “الصحافة البناءة والمسؤولة”.
وفي الإجابة عن هذه الأسئلة، اختارت وزارة الإعلام طريقاً آخر قد يكون أطول وأكثر تعقيداً، لكنه معمول به في الدول التي تحترم حرية التعبير، وتسعى في الوقت نفسه إلى حماية مجتمعاتها من الانزلاق نحو خطاب الكراهية والتحريض.
وأوضح المصطفى أنّ هذا الخيار لا يلغي دور الدولة، بل يعيد تعريفه من سلطة عقابية إلى شريك تنظيمي وضامن للتوازن، وقد تمثل هذا الخيار في العمل على إعداد مدونة سلوك مهنية وأخلاقية تفصيلية، تتجاوز الصيغة العامة لمواثيق الشرف التقليدية، وتتفادى الصلابة القانونية التي تحتمل التأويل والتفسير بحسب الدوافع.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، جرى اعتماد مقاربة “من الأسفل إلى الأعلى”، تقوم على إشراك الصحفيين والنقابات والمؤسسات الإعلامية في صياغة المدونة، بدل فرضها بصيغة فوقية، وتم في هذا الإطار تشكيل لجنة من عشرة خبراء سوريين في مجال تنظيم العمل الإعلامي وأخلاقيات العمل الصحفي، أغلبيتهم من المستقلين، مع تمثيل محدود للوزارة واتحاد الصحفيين، تمثّل بشخص واحد من الوزارة، ومثله من اتحاد الصحفيين، بهدف الوصول إلى صيغة توافقية وعملية.
وللوصول إلى هذه المدونة، جرى عقد نحو 16 ورشة عمل في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية، بما في ذلك منطقة الجزيرة السورية قبل أن يتم منعها من قبل الورشتين المتبقيتين.
وشارك في هذه العملية أكثر من 600 صحفي ومدير مؤسسة إعلامية بشكل فيزيائي، فيما توسعت بعض الورشات لتشمل ما يقارب ألف مشارك بين صحفي ومشتغل بالحقل الإعلامي من تيارات وخلفيات متعددة، ما جعلها من أوسع التجارب التشاركية في هذا المجال.
وقد أولت المدونة اهتماماً خاصاً بالإعلام الرقمي وصنّاع المحتوى، باعتبارهم فاعلين رئيسيين في تشكيل الرأي العام، ولأن المدونة لا تحمي الصحفي فقط، بل تحمي حق الجمهور في الوصول إلى إعلام موثوق ومسؤول.
وعلى صعيد المنهجية، يوضح وزير الإعلام أنه تم اعتماد مقاربة هجينة تجمع بين المدرسة الاسكندنافية التي تركز على اللجان المستقلة والمشاركة المجتمعية الواسعة، والمدرسة البريطانية التي تعطي أولوية للتوازن بين حرية التعبير والمصلحة العامة عبر فرق خبراء ومشاورات مؤسساتية، إلى جانب المدرسة الأوروبية التقليدية التي تقوم على دور حكومي منظم ومعتدل، مع حضور فاعل للنقابات والحوارات المفتوحة.
وبعد نحو خمسة أشهر من العمل المتواصل والنقاشات المعمقة، اختتمت الورشات التحضيرية في دمشق، وتشكلت لجنة صياغة توصلت إلى نسخة أولية من المدونة، تناولت أكثر من 90 صفحة تتعلق بالعمل الإعلامي، وتضمنت ملحقاً خاصاً بصناع المحتوى، ما يجعلها قريبة في مضمونها ومستواها من مدونات عالمية معروفة، بل تتجاوزها في بعض الجوانب.
ومع الانتهاء من مرحلة الصياغة والتنقيح، يجري حالياً النقاش حول آليات التطبيق ومدى الإلزامية، سواء للموقعين أم لغيرهم، إضافة إلى سبل ترقية الخلافات المهنية قبل الوصول إلى القضاء.
ووفق الرؤية الأولية، يتوقع أن تلتزم بها المؤسسات الإعلامية المرخصة، بحيث تكون المصادقة عليها شرطاً للترخيص والحصول على البطاقة الصحفية، على أن يتم التطبيق تدريجياً، وبما يقوم على مبدأ التصحيح والتقويم قبل العقاب.
وأضاف المصطفى، صحيح أن المدونة لا تشكل حلاً لكل الإشكاليات، ولا تطرح بديلاً من القانون، لكنها تمثل إطاراً مهنياً ينظم العمل الصحفي، ويساعد على حل الخلافات داخل الوسط الإعلامي قبل الانتقال إلى العتبة القضائية، والمأمول أن تتحول إلى مرجعية أخلاقية، بل إلى “دستور مهني” للصحفيين صاغوه بأنفسهم، يمهد لاحقاً لإنشاء مؤتمر عام للموقعين عليها، يضمن استمرار تطويرها ومراجعتها دورياً، كما هو معمول به في الدول المتقدمة.
وختم وزير الإعلام مقاله بالتأكيد على أنّ ما أنجز ليس وثيقة بيروقراطية، بل تجربة سورية جديدة لتنظيم الإعلام بأدوات مهنية، تحترم الحرية، وتحمي المجتمع، وتؤسس لإعلام مسؤول يليق بتضحيات السوريين، ويضع سوريا على مسار متقدم في تنظيم العمل الصحفي.



