الأربعاء 9 ذو القعدة 1446 هـ – 7 مايو 2025
دمشق
Weather
°+30

“حفّار القبور” يكشف هويته ويروي فظائع ارتكبها نظام الأسد البائد

GraveDigger

أزال صاحب أحد أكبر الشهادات الصادمة عن مقابر جماعية في عهد النظام البائد والمعروف بـ “حفار القبور” الوشاح عن هويته التي بقيت مجهولة منذ تقديمه شهاداته أمام محكمة “كوبلنز” الألمانية.

يظهر اليوم بوجهه الحقيقي بعد سنوات من التخفي خوفًا من الملاحقة، حاملاً ما لا تستطيع الوثائق وحدها حمله، ذاكرةٌ حيّة لآلاف الأرواح المدفونة بصمت، وشهادةٌ دامغة على فظائع نظام متوحّش أثّرت في محاكمات دولية وصنعت تحولاً في ملف العدالة السورية.

من هو “حفار القبور”؟
هو محمد أسعد نايفة، من سكان دمشق، موظفٌ مدنيٌّ يعمل مُسجّلاً لطلبات الوَفَيات في مكتب “دفن الموتى” بمحافظة دمشق، لم يدرك أن اسمه سيرتبط لاحقاً بأحد أكثر ملفات الجرائم توثيقاً في تاريخ سوريا الحديث.

في مقابلة خاصة مع تلفزيون سوريا، يروي نايفة مراحل عمله داخل المقابر الجماعية، ويتناول تفاصيل مرعبة لعميات دفن ممنهجة لضحايا قضوا تحت التعذيب في الفروع الأمنية التابعة للنظام المخلوع والمشافي العسكرية.

ما بين شهري نيسان وأيار 2011، بدأت قصة نايفة الذي تحوّل من موظف مدني لمشرفٍ على عمليات دفن آلاف الضحايا في دمشق، عندما استدعاه مدير الدائرة إلى مكتبه ليتعرّف على شخصين بلباس مدني تبيّن فيما بعد أنهما ضابطان من فرع المخابرات الجويّة قاما باصحطابه إلى مقبرة “نجها” الواقعة خلف المقبرة المدنية في ريف دمشق.

هناك دفنوا فيها ما يقارب ٣٠- ٣٥ جثةً في قبور ضيقة، عرضُ الواحد منها مترٌ، وطوله متران، ورغم ضيق القبر وعدم استيعابه أكثر من جثة واحدة، كانوا يدفنون فيه ما بين جثتين وخمسة، حسب حجم الجثث.

لم يستوعب نايفة حقيقة وماهية الحدث الذي أخفاه عن مديره عندما عاد إلى المكتب. متجاهلاً سؤال مديره عن سرّ ذهابه مع الضابطين اللذيّن أمراه بالذهاب مرة ثانية معهما بعد يومين ليتكرر المشهد المأساوي.

“كانت الجثث ملفوفة بأكياس نايلون، مربوطة من طرفيها وهو ما منعني من رؤيتها، لكن آثار الدماء كان ظاهرة على عليها عند سحبها من السيارات” يشرح نايفة التفاصيل المرعبة.

ويضيف، “في المرة الثانية طلبا مني جلب عمال إلى المقبرة فأحضرت سبعة عشر عاملاً من المكتب دون أن نجرؤ على مجرد السؤال أو التفكير بالاعتراض، وعند وصولنا المقبرة المحاطة بسيارات “الدوشكا” العسكرية من الداخل والخارج، كان الضابطان هذه المرة باللباس العسكري، وقد عرّفوا عن أنفسهما فعرفت للمرة الأولى أنهما العقيد مازن سمندر، والعقيد أيمن حسن”.

كانت المرة الأولى التي يرى فيها نايفة جرافتين وشاحنات مُبرّدة في المقبرة وسط حيرة من مشهد الاستنفار العسكري أيضاً، لكنه تفاجأ بالشاحنات المبردة وهي تصعد ساتراً ترابياً ثم ترجع إلى خط ترابي محفور بعرض ٣ أمتار وبعمق ٥-٦، وما هي إلا ثوانٍ بعد فتح باب الشاحنات الخلفي حتى انتشرت رائحة كريهة ترافقت مع سقوط الجثث على طرف الخط المحفور بينها جثث أطفال، وأغلبها متحلّل ومتعفّن ومشوّه بسبب التعذيب في الأفرع الأمنية.

يوضح نايفة أن عدد الخطوط المحفورة كان ما بين ١٥- ٢٠ خط، أما عن أحجام الخطوط المحفورة فلم تكن محددة، بل متفاوتة الطول ما بين 50-١٥٠ مترًا.

أما مهمته فقد اقتصرت على مرافقة العمال والإشراف عليهم، وتصوير وثائق تتضمن معلومات عن الفرع الأمني والجثث، ثم نسخها لأربعة نسخ فقط، نسخة يحتفظ بها مكتب دفن الموتى، وأخرى ترسل للمحافظ، والنسختان الباقيتان ترسلان للضابطين في مشفى تشرين العسكري.

“القطيفة” وجهة الدفن التالية
مع نهاية عام 2011 وامتلاء مقبرة “نجها” بالجثث، كانت الوجهة إلى القطيفة (تبعد نحو 50 كيلومتراً عن العاصمة)، هناك حيث كانت التحضيرات لتحويل فسحة صحراوية كبيرة إلى مقبرة جديدة ستربط بين الفرقة الثالثة وحقل رمي تدريبي.

“رافقت الضابط إلى هذا المكان، حيث كانت الجرافات تحفر خنادق طولها ما بين ١٥٠- ٢٠٠ متر، وقد عرفت تلقائياً أنها مقبرة جديدة، قبل أن يطلب مني تحويل العمال إليها، الذين استمروا بدفن الجثث فيها يومياً حتى خروجي من سوريا ٢٠١٨”، يقول نايفة.

مرتان أسبوعياً كان يتسلّم نايفة ضحايا مجهولي الهوية في شاحنات مبردة مكتوب عليها “مسلخ الزبلطاني”، قادمين من مشافي “المواساة والمجتهد وداريا الوطني وتشرين العسكري”، ويتراوح عدد الجثث في البراد الواحد ما بين 150 وحتى 500 جثة.

إضافة إلى تسلّم سيارات شحن مكشوفة أو شاحنات صغيرة محمّلة بـ30 وحتى 40 جثة لضحايا مكبلي الأيدي مع أرقام ورموز مكتوبة على ملصقات وُضِعت على جبهاتهم وصدورهم، بعد أن أعدموا في سجن صيدنايا، وكان يظهر على أعناقهم أحياناً آثار حبل الإعدام أو قطعة منه.

يتناوب العمال على إفراغ شاحنتين، عبر دفع الجثث من داخلها نحو خطوط الدفن الترابية، ثم تبدأ علمية الطمر بطبقة رقيقة من التراب على جثث الخط الممتلئ لثلاثة أمتار، ليكملوا ملأ الأمتار الثلاثة الباقية بدفعات جديدة من الجثث في اليوم التالي.

واستطاع نايفة خلال عمله وزياراته إلى المشافي واحتكاكه بزملاء يعملون معه في المهنة ذاتها توثيق مقابر جماعية أخرى في دمشق، كمقبرة في مطار المزة بفرع المخابرات الجوية، تحت مهبط المروحيات، ومقبرة حفرها أحد زملائه في مقر الفرقة الرابعة أول منطقة الصبورة الواقعة على بعد 22 كيلومتراً من العاصمة دمشق، وكذلك مقبرة مطار مرج السلطان التابعة للمخابرات الجوية.

إضافة إلى كشفه أسماء الضباط المتورطين في عمليات الإعدام ودفن الجثث، من بينهم العميدان مازن سمندر وأيمن حسن، ومدير الخدمات الطبية، اللواء الطبيب عمار سليمان، الذي كان يرتبط بشكل مباشر مع رئيس النظام المخلوع بشار الأسد.

إلى جانب المجرم علي مملوك ضابط الاستخبارات الأبرز، والذي ظهر اسمه صريحاً في مُهمة أمنية حصل عليها نايفة، وموقّعة من خمسة ألوية، رئيس الأمن السياسي وشعبة المخابرات الجوية وشعبة فرع الأمن العسكري إلى جانب المخابرات العامة والقيادة القطرية.

مشاهد لا تغادر الذاكرة
يروي حفار القبور خلال مقابلته مشاهد عدة منها حادثة مروعة حين تحرّك أحد الضحايا فرع صيدنايا بشكل بطيء، وهو معصوب العينين ومربوط القدمين واليدين إلى الخلف، وعلى عنقه آثار حبل توحي أنه جرى إعدامه شنقاً، وعند معرفة أحد الجنود بذلك أوشى إلى الضابط الذي رفض دفنه في الحفرة وأصدر أمرًا فوريًا لسائق الجرافة بدهسه وسحق عظامه دون تردد.

وفي حادثة أخرى أكثر بشاعة ودموية، رأى نايفة -خلال زيارته مشفى المجتهد لأخذ شاحنة مبردة بالجثث- طبيباً يبكي، لأن الضباط أجبروه على كتابة تقرير طبي لطفلة عمرها سبع سنوات يبيّن أن سبب وفاتها “جلطة دماغية”، بينما كان السبب الحقيقي لموت الطفلة اغتصابها من أحد عشر شبيحاَ.

من بين أبشع المشاهد أيضاً التي تركت أثرًا نفسيًا عميقًا في نفس نايفة، امرأة تحتضن رضيعها، وقد فارقت الحياة وعليها آثار تعذيب وحشي، أما المشهد الثاني، فكان أكثر فظاعة، حيث رأى رضيعًا مهشّم نصف الجمجمة، وعليها آثار حذاء مطبوعة بوضوح حتى صدره.

لكن ما جعل الجرح أعمق، هو ذروة الحقد ومستوى التوحش والإجرام التي وصل إليها ضباط النظام المخلوع، إذ كانوا يأمرون العمال بوضع جثث الأطفال والرضع على السواتر الترابية في المقابر، ليتحولوا إلى طعام تنهشه الكلاب الضالة، في مشهد يفوق كل وصف.

يقول نايفة، “عانيت صحيًّا ونفسيًّا من مشاهد الجثث، وكنت أمتنع عن الطعام والشراب، وأميل إلى الاعتزال والبكاء”. مضيفاً، “كل تلك المشاهد كانت ترتسم أمامي ليلاً، فأشعر أن الجثث ليسوا مجرد أرقام، بل هم أهلي واقاربي.. لا تتوقف مطالباتهم لي بالانتصار لهم واسترداد حقهم وهذا كان يزيد الضغوطات النفسية والصحية عليّ”.

إلى منابر العدالة الدولية
لم يستطع حفار القبور مغادرة البلاد قبل العام 2018، بسبب شعوره بأنه مراقب طيلة الوقت، إضافة إلى اختطاف ابنه مرتين من أمن النظام البائد، وتهديد أسراته كنوع من الضغط حتى لا يفكر بمغادرة البلاد أبداً، حسب وصفه.

بعد إجراءات لمّ شمله من ابنته المقيمة في ألمانيا واستقراره فيها، سارع نايفة للتواصل مع الناشطة “ميسون بيرقدار”، وعبرها تعّرف إلى الحقوقي “أنور البني” الذي تسلم قضيته، وعرضها على السلطات الألمانية.

أدلى نايفة بشهادة مهمة إلى محكمة “كوبلنز” التي حاكمت العقيد أنور رسلان، رئيس قسم التحقيقات في “فرع الخطيب” (الفرع 251)، بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وبعد “كوبلنز” تواصلت معه المنظمة “السورية للطوارئ” واصطحبته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قدّم شهادته أمام الأمم المتحدة في نيويورك، ومكتب التحقيق الفيدرالي FBI بشيكاغو، وأمام الكونغرس أيضاً في حزيران 2022، مرتدياً آنذاك ملابس سوداء بالكامل لإخفاء هويته.

تُعدّ شهادات حفار القبور من أقوى الأدلّة والشهادات الإنسانية ضد النظام البائد، إذ أسهمت في إثبات استخدام الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، ودعمت دعاوى قانونية دولية، وأثّرت بشكل فارق على الرأي العام العالمي، إلى جانب تعزيز الجهود الدولية لفرض عقوبات أمريكية وأوروبية على النظام البائد.

وكان نايفة قد طّالبَ برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، لأن “السوريين ما زالوا يعانون من هذه العقوبات ويردون العيش بسلام في ظل الحكومة الجديدة” وفق تعبيره، داعياً الحكومة السورية للاستمرار في ملاحقة فلول النظام البائد.

“لاحقتُ النظام المخلوع ورجاله بشهاداتي وفضحتُ ممارساته الوحشية، ومستعدٌّ أيضاً لمشاركة الحكومة بشهاداتي عن معلومات لأسماء وعناوين ضباط منتمين للنظام المخلوع، ففرحة السوريين لا تكتمل إلا بتحويل الأسد وأعوانه إلى محكمة الجنايات الدولية”، يختم نايفة مقابلته.

ما رواه “حفار القبور” في مقابلته أعاد فتح جرح الذاكرة السورية الذي لم يندمل بعد، مُذكّراً بتفاصيل مرعبة عن المقابر الجماعية وعمليات القتل الوحشية الممنهجة التي نُفّذت بأوامر من النظام المخلوع.

فشهادته لا يمكن أن تكون مجرد إعادة رواية قدّمها سابقاً في المحاكم الدولية، بل هي دعوة حيّة للمضي قدمًا في ملف العدالة والمساءلة، ولتسليط الضوء على ضرورة محاسبة كل من تلطخت يداه بدماء الأبرياء، والبحث عن هوية المتورطين وسلسلة الأوامر التي صدرت من أعلى هرم السلطة البائدة.

المصدر: تلفزيون سوريا